نفد صبري ، وما عدت أحتمل... لا أنا ميْت فأرتاح ، ولا أنا حيّ فأعتدّ بنفسي... أكتحل السهاد خشية النوم وكوابيسه. بهذه الكلمات المبعثرة تمتم صاحبنا في تلك الليلة الحالكة، وهو يسند ظهره إلى حجارة الجدار التي تفصل بين ضفّتي النهر.  

 كان صاحبنا على الدوام يرعد ويزبد ، وكأنّ الابتسامة سُرقت من شفتيه منذ أيام الشباب الاولى. خطوط الزمن قد حفَرت عميقاً في ملامحه المهترئة ، وكأنّها أخاديد صنعها سيل جارف، أو أرض جرداء شوّهتها حفر الثعابين والفئران.      

 قال صاحبنا في نفسه: أيّها الحالم الضائع ! إنّك تطوي بين جنباتك حكايات  غريبة وقصص ألف ليلة وليلة. لا تقلّب الماضي أيّها الأرعن! لا تدع الحزن يُخيّم عليك، حتى لو كان مجرّد ذكرى، فلا توقظ جذوة الشوق إلا امرأة تحبّها...  

وما هي إلا لحظات حتى سرى النعاس في جفنيه المتهدّلين، فغفا غفوة عادت به إلى ذكريات عقود مضت ، عندما كان شابّاً يافعاً مفتول العضلات. رأى في غفوته تلك المرأة ذات الحسن والجمال، والقدِّ والاعتدال، ذات الخدّ الأسيل ، والطرف الكحيل ، والخصر النحيل.        

  وتذكّر تلك الكلمات " وما زلتِ تقرأين في كل همساتي صهيل عشق جارف" " أفي النساء مثلك مَن تأتي وتعتلي في قلبي عرش بلقيس؟" حلمت أن اترعرع في حضنك الدافئ لأقطف حبات البرتقال ، وأرتشف رشفة زيت من أشجارك المتدلّية فوق السفوح والتلال...

وما هي إلا ساعة حتى دغدغت أشعة الشمس الملتهبة وجنتيه البائستين ، فأنتفض من غفوته قائماً بتثاقل وكأنه يحمل فوق كاهله هموم العالم بأسره ، فلم يجد تلك المرأة التي طالما قال لها ، سأصنع لك تمثالا من الجواهر والعقيق.  

وبقي الحلم حلما بحلوه ، ولكنّ الواقع علقم مرّ المذاق . أيقن صاحبنا أنه ما زال وراء الجدار المظلم ، يفترش الارض ويتلحّف بالسماء، وينتظر قطار العودة لعلّه يظفر بحبّة برتقال أو رشفة زيت ، ولكن هيهات هيهات !!!!