15/05/2012 - 03:53:28 pm
أسرار وخفايا مجزرة كفر قاسم...!!بقلم : فضيلة الشيخ ابراهيم عبدالله صرصور
نشر في الذكرى ال 49 لمجزرة كفر قاسم في صحيفة القدس العربي اللندنية 29-10-2005
لقد فوجئت القيادة الإسرائيلية بعد الإعلان عن استقلال الدولة بوجودٍ عربي داخل حدودها. واضح أن هذا الوضع لم يكن مقبولاً، فقد سعت الحركة الصهيونية منذ البداية، وحرصت القيادات السياسية والعسكرية للتنظيمات اليهودية قبل قيام "إسرائيل" وبعدها، علي إخلاء الدولة من أي وجود عربي مهما كان محدوداً.. أرادوا دولة (نقية) من أي وجود (غريب) أرادوها دولة يهودية صرفة. لذلك كان لابد من استكمال عملية (التطهير العرقي!!) التي لم تُستكمل تماماً قبل الاستقلال. وظلَّ السؤال الذي يراود بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع حينذاك: كيف، ومتي يكون ذلك؟
وجاءت الفرصة السانحة..!!
لقد كشفت محاكمة المجرمين الأحد عشر من جنود حرس الحدود الذين نفذوا المجزرة في كفر قاسم في التاسع والعشرين من شهر تشرين أول سنة ألف وتسعمائة وستّ وخمسين، والتي راح ضحيتها تسعة وأربعون من سكان البلد الوادعين من الرجال والنساء، ومن الشيوخ والشباب والأطفال، الذين كانوا عائدين إلى أسرهم وعائلاتهم بعد يوم عمل شاق قضوه في المزارع والمصانع اليهودية.. كشفت عن صلة وثيقة بين مجموعة القتلة الذين نفذوا الجريمة وبين القيادات السياسية والعسكرية العليا.. لقد نفذّ هؤلاء مجموعة أوامر محددة كان لها هدف سياسي واضح.. لقد كانت فرقة حرس الحدود في كفر قاسم أداةً وَعَت تماماً ما تقوم به، وعرفت على وجه الدقة الأهداف التي تسعى إليها القيادة العليا من وراء هذه الجريمة..
لقد استغلت القيادة العليا والمقصود هنا أساساً بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع موشي ديان ورئيس أركانه وسلسلة القيادة المرتبطة بهما، وحشية جنود حرس الحدود وطغيان غرائز القتل فيهم وتأجج نار الحقد والكراهية للعرب والمسلمين في قلوبهم، بهدف تنفيذ المؤامرة بأبشع صورة يمكن أن يتصورها عقل. لقد كانت المجزرة من بدايتها وحتى نهايتها، إضافة إلى الأحداث والوقائع المرتبطة بها ابتداء وانتهاء، نسخة مكررة لجرائم النازية في ألمانيا، وجرائم التتار والصليبيين في القرون الماضية..
مازال دخول "إسرائيل" الحرب ضد مصر فيما سمي بالعدوان الثلاثي، جنباً إلى جنب مع بريطانيا وفرنسا، دخولاً إشكالياً التقت فيه مصالح الدول الثلاث، ولكنها مصالح ليست بالضرورة واحدة مئة بالمئة، فبعضها يتقاطع وبعضها الآخر يتعارض ويتصادم..إلا أن "إسرائيل" أرادت من وراء هذه الشراكة أن تحقق أكثر من هدف. الأول: الحصول على دعم بريطانيا وفرنسا في تطوير قدراتها العسكرية خصوصاً في المجال النووي وهذا ما حصل فعلاً، والثاني: تنفيذ خطتها التي لم تغب أبداً عن خيال الساسة في "إسرائيل" في إخلاء وطرد وتهجير من تبقى من الفلسطينيين إلى خارج الحدود حتى تبقى "إسرائيل" دولة يهودية لا يعكر صفوها وجود أجنبي..
لقد جاءت الفرصة مع بداية العدوان على مصر، فأنظار العالم مشدودة إلى ما يحدث هنالك في سيناء، فلا بد من التقاط هذا الظرف المثالي لتنفيذ المخطط (س 59)، أو (مخطط خُلد) والذي يقضي بإخلاء المواطنين العرب من المثلث، وذلك في إطار حرب محتملة مع الأردن.. لقد ثبت من محاضر جلسات محكمة مالينكي قائد وحدة حرس الحدود التي نفذت المجزرة، ومحكمة العقيد يسخار شدمي والذي كان قائد أحد الألوية المسؤولة عن الحدود مع الأردن، أن (مخطط خُلد) لم يكن مجرد مخطط أو فكرة، بل أعدّتْ العدّة لتنفيذه في إطار الخطط الكلية، استعداداً للحرب.
دير ياسين ثانية ولكن...
لا شك عندنا في أن النتائج الكارثية لمجزرة دير ياسين علي الشعب الفلسطيني والتي أدّت بعدما انتشرت أخبارها إلى أن يتحقق لإسرائيل ما كانت تحلم به من هجرة غالبية الشعب الفلسطيني من وطنه، عادت لتدغدغ أدمغة نفس القيادات اليهودية التي شاركت بشكل مباشر وغير مباشر في تلك المجزرة.. أراد بن غوريون أن يعيد التاريخ من جديد، وأن ينفذ نفس الخطة أملاً في أن يحقق نفس الهدف... خطط لمجزرة في مكان ما ضد مواطنين مسالمين، واختار كفر قاسم لهذا الغرض لأسباب ليس هذا مجال التوسع فيها أو الحديث عنها، أما الهدف فدفع سكان المثلث العرب على الأقل والذين هو أقرب إلى الحدود مع الأردن، إلى قطع هذه الحدود في اتجاه الشرق تحت تأثير الرعب وأخبار المجزرة تماماً كما حدث في تداعيات دير ياسين.. إلا أن رياح هذه المؤامرة الشيطانية لم تجر بما تشتهي سفن القيادة الإسرائيلية، حيث اصطدمت الإرادة الصهيونية بإرادة شعب تعلم الدرس من التجربة القريبة، فقرر أن يبقى مزروعاً في أرض وطنه مهما كلفه ذلك من ثمن، ومهما قدّم في سبيل ذلك من التضحيات..
لقد جاءت شهادات جزّاري كفر قاسم من حرس الحدود لتؤكد إلى ما ذهبتُ إليه، حيث شهد قائد السرية الثانية في كتيبة ملنكي، يهودا فرينكنتل بوجود مخطط مسبق لطرد عرب المثلث، أما بنيامين كول والذي كان ضابطاً تحت إمرة ملنكي، فقد شهد بأنه (شعر مما جاء في المنشور أن الحرب ستكون على الجبهة الشرقية ضد الأردن، ويجب تسديد لكمة لعرب المثلث حتى يهربوا إلى الجانب الآخر للحدود، وليعملوا ما شاؤوا).
المجرم جبرئيل دهان، والمجرم عوفر ادليا هما أيضاً بشهادة مفادها، أن الأوامر التي أصدرها ملنكي لهما باسم القيادة العسكرية والسياسية العليا، قد فُهم منها أن "إسرائيل" معنية من وراء تنفيذ المجزرة (دفع العرب إلى الهرب إلى الأردن بضغط من الخوف والرعب).
مراوغة إسرائيلية دموية...
لقد كانت "إسرائيل" معنية، بدفع الأردن إلى شن الحرب ضدها، حتى تستطيع تنفيذ مخططها للتهجير كجزء من العمليات العسكرية، إلا أن هذه الرغبة اصطدمت بإرادة بريطانيا التي كانت وصية على الأردن، كما كانت ملتزمة باتفاقية دفاع معها يلزمها بتقديم الحماية لها في حالة تعرضها إلى اعتداء..
لقد التزمت "إسرائيل" بعدم الاعتداء على الأردن حسب الاتفاق الثلاثي الموقع بين حكومات فرنسا وبريطانيا و"إسرائيل" في (سيفر) بالقرب من العاصمة الفرنسية باريس. لقد جاء في البند الخامس للاتفاق ما يلي: (تلتزم "إسرائيل" بعدم الاعتداء على الأردن أثناء العمليات ضد مصر، ولكن في حالة حدوث اعتداء أردني على "إسرائيل"، تلتزم الحكومة البريطانية بعدم التدخل لصالح الأردن).
لم تنجر حكومة سليمان النابلسي الوطنية في الأردن وراء استفزازات "إسرائيل" لأسباب تتعلق بقدرات الأردن على خوض مواجهة عسكرية لن تصمد فيها طويلاً، في الوقت الذي التزم فيه بن غوريون لبريطانيا بعدم الاعتداء على الأردن، الأمر الذي أربك القيادة ووضع خططها للتنفيذ.
مخططات التهجير على كف عفريت...
يبدو أن القيادة الإسرائيلية وبعدما فشلت في خلق مناخ مناسب يساعدها على تحقيق أهدافها في طرد العرب، لجأت إلى أسلوبها القديم الجديد الذي تتقنه تماماً.. لم يعد أمام "إسرائيل" إلا أن تذبح سكان كفر قاسم تحت مختلف الذرائع لتدفع العرب إلى الهجرة كما جاء في إفادات وشهادات جلادي كفر قاسم من حرس الحدود. أرادت "إسرائيل" بعدما فشلت في معركتها السياسية مع بريطانيا والأردن، أن يكون الدم البريء للمواطن المسالم والذي من المفروض أن يتمتع بحقوقه كمواطن يحمل الهوية الإسرائيلية، أن يكون هذا الدم هو السبيل لتحقق "إسرائيل" حلمها الإجرامي.. فكانت مجزرة كفر قاسم.
فصول تقشعر من هولها الأبدان...
يمكننا الإشارة إلى فصول أربعة أساسية لمجزرة كفر قاسم، الأولى: مجموعة الأوامر التي صدرت قبل المجزرة والتي مهدت لتنفيذها. الثانية: المجزرة وأحداثها وبشاعة أعمال القتل التي تمت بدم بارد. والثالثة: المحاكمة الصورية التي انتهت بأحكام، خُفِّضَتْ فيما بعد، وانتهت بعفو عام أصدره رئيس الدولة، ليتسلم بعدها المجرمون مناصب رفيعة في الدولة. والرابعة: المصالحة التي كانت وبكل المعايير مذبحة أخلاقية ضد الضحايا وأسرهم وضد كفر قاسم بشكل عام.
البداية:
لقد أبلغ الجنرال تسفي تسور قائد المنطقة الوسطى، العقيد يسخار شدمي قائد اللواء في منطقة المركز مجموعة الأوامر المتعلقة بفرض منع التجول في منطقة المثلث والحفاظ على هدوء الجبهة الشرقية أثناء العمليات في سيناء.
أمر العقيد شدمي بدوره القائد ملينكي قائد وحدة حرس الحدود بتنفيذ خطة منع التجول بكل صرامة وقوة...وأصدر ملينكي بدوره أوامره بذلك مطالباً ومؤكداً على أن يكون التنفيذ صارماً ومن خلال استعمال السلاح بهدف القتل، من خلال المتابعة لمجموعة الأوامر نلاحظ تردد التعابير التالية: (الله يرحمه أجاب شدمي على سؤال لملينكي حول مصير المواطن العائد من عمله دون علم بأمر منع التجول)، (أفضل وقوع بعض القتلى على إتباع سياسة الاعتقالات رد ملينكي على سؤال حول إمكانية تنفيذ اعتقالات)، (لن يكون هنالك مصابين، رد ملينكي على سؤال لأحد الجنود حول ما يجب فعله بالمصابين)، (بلا عواطف أجابه ملينكي على سؤال لأحد الجنود حول ما يجب عمله مع النساء والأطفال)، (الله يرحمهم، هكذا قال القائد جواب ملينكي عن سؤال حول مصير العائدين من العمل).
كانت هذه الأوامر صريحة، تدعو إلى إطلاق الرصاص بدم بارد ودون تمييز بهدف القتل، لقد كان القتل هو الوسيلة، أما الهدف فكان الطرد لمن تبقى حياً..
وقوع الكارثة:
بدأت المجزرة، وبدأت أعمال القتل والإبادة الجماعية.. كان العمال والفلاحون من كل الأعمار ومن كل الأوساط، يصلون إلى (ساحة الإعدام) في مدخل القرية الوحيد، حيث تأمرهم وحدة حرس الحدود بالوقوف صفاً واحداً، ثم يطلق الرصاص عليهم، ويستمر إطلاق الرصاص حتى يتأكد الوحوش من موت ضحاياهم. لم تشفع لهؤلاء المواطنين هوياتهم الإسرائيلية، ولا ضعفهم وتعبهم بعد يوم عمل شاق. لم تشفع للأطفال طفولتهم، ولا للفتيات أنوثتهن وقلة حيلتهن. لم تشفع للجرحى أنّاتهم ولا جراحاتهم.. لقد قررت "إسرائيل" إعدامهم، فكانت المجزرة عملية إعدام بشعة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً إلا في ملفات جباري العالم وجزاّريه.
دفن من غير نظرة ووداع:
بعد أن صدرت الأوامر بوقف عمليات الإعدام، نقلت جثث الشهداء إلى مكان قصيّ، لتتم عملية الدفن بعدها، دون أن يمنح المجرمون لذوي الشهداء وأسرهم الحق في إلقاء النظرة الأخيرة على أعزاء قلوبهم، وفلذات أكبادهم..جاء القتلة بمجموعة من أهلنا في جلجولية وأمروهم بحفر تسعة وأربعين قبراً في مقبرة كفر قاسم..لم يعرفوا لماذا، حتى جاءت شاحنة تحمل جثث الشهداء المكدسة فوق بعضها..لم يقو الرجال من جلجولية علي تحمل المنظر، فانفجروا في البكاء والعويل، وقد رأوا أصحابهم مضرجين بدمائهم، جثثاً هامدة.. وتم الدفن وقد حط جبل من الهموم علي صدور الدافنين.. لم يسمح لأسر الشهداء ولسكان القرية من زيارة المقبرة والإطلاع على أعزائهم إلا بعد ثلاثة أيام.. انفجرت بعدها كفر قاسم تبكي بصوت شجي، وتشكو إلى الله ظلم الظالمين.
محاولةٌ لأخفاء الجريمة:
حاولت الحكومة طمس معالم المجزرة، وخرج بن غوريون في البداية ليتحدث عن (حدث - وقع في قرية عربية حدودية). لم يرد أحد أن يتحدث، ولم تقبل الحكومة أن تعترف بوقوع المجزرة، إلا بعدما فرضت بعض وسائل الإعلام، وبعض القيادات السياسية العربية واليهودية، منهم توفيق طوبي ولطيف دوري واوري أفنيري، على الحكومة الكشف عن حقيقة ما حدث.
المحكمة المؤامرة والصلحة المجزرة:
تم تقديم المجرمين إلى محكمة علنية. انتهت هي أيضاً بمجزرة جديدة ضد كفر قاسم، يوم صدرت الأحكام المخففة ضد السفاحين، رغم اعتراف المحكمة بفظاعة الجريمة.. ويوم صدر العفو من رئيس الدولة، وأخيراً يوم تسلم عدد كبير من هؤلاء المجرمين مناصب رفيعة في الدولة حيث، تسلم مالينكي وظيفة ضابط الأمن في مفاعل ديمونة النووي، وتسلم جبرئيل دهان - ويا للسخافة - منصب مدير الدائرة العربية في بلدية الرملة.
يتقدم الزمان بعدها خطوات ليسجل صفحة سوداء جديدة، فرضت "إسرائيل" فيها صلحة بين الدولة وبين كفر قاسم، وخرجت الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية مستهترة بمشاعر أهلنا، ومتحدثة عن أنه (ذبح في تلك المناسبة 15 خروفاً و100 دجاجة حسب الشريعة اليهودية، وعلي حساب الجيش الإسرائيلي). لقد فرضت "إسرائيل" الصلحة من أجل أن تكون العصا التي يعتمد عليها بن غوريون لمنح العفو لملينكي وإغلاق الملف نهائياً، ومن أجل قطع الطريق على أسر الضحايا في المطالبة بالتعويضات المرتكزة إلى مسؤولية الدولة المباشرة عن المجزرة، وإعفاء الدولة من تحمل أي مسؤوليات مستقبلية عن هذا الملف.
لن ننسي ولن نغفر...
اليوم وفي الذكرى التاسعة والأربعين للمجزرة، لا نلمس أي تغيير في السياسة الإسرائيلية، فما زالت ترى في العرب الفلسطينيين سكان هذه الدولة ومواطنيها، خطراً أمنياً وديمغرافياً، وما زالت الدولة تربي أجهزتها على كراهية العرب، والتنكيل بهم مع أول فرصة.. ما زالت الدولة تعتمد سياسة تزييف الحقائق ومسخ الوقائع في كل ما له صلة بالوسط العربي. أحداث يوم الأرض عام 1976، أحداث ومجزرة تشرين أول 2000، والممارسات الإسرائيلية اليومية تثبت ما ذهب إليه تقرير (لجنة أور) من أن الدولة وأجهزتها ما زالت وبعد مرور ستة وخمسين عاماً على قيامها عاجزة عن استيعاب مواطنيها الفلسطينيين حسب المعايير التي تعتمدها الدول المتحضرة.. ما زالت "إسرائيل" مصرة على تبني خيار الصدام معنا ومع الشعب الفلسطيني، وما زال الشعب الإسرائيلي حسب آخر الاستطلاعات يؤمن بعدم حقنا في العيش الكريم على أرضنا وفي وطننا.. أما نحن فلن ننسى ولن نغفر..
الكتابات والمواضيع المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع وانما تعبر عن رأي كاتبها والمسؤولية القانونية يتحملها الكاتب . للتواصل مع موقع القرية نت . عنوان بريدinfo@alqaria.net / هاتف رقم:0507224941