الانقسام السياسي والايديولوجي والفكري شاخص في مصر، كما معظم الدول العربية، فهي بلد منقسم على ذاته سياسيا وايديولوجيا، وقد أصبح هذا الانقسام واضحاً منذ اللحظات الأولى لانهيار النظام السابق"مبارك". وقد تجلى هذا الانقسام تقريباً في كل محطات الفترة الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية.
تعود اسباب هذا الانقسام، الى الخوف المتبادل بين المعسكرين, معسكر القوى الإسلامية ,ومعسكر يضم قوى مختلفة من الأحزاب والجماعات ذات التوجهات الليبرالية واليسارية؛ ففي الشهور الأولى من المرحلة الانتقالية، كانت الأغلبية الشعبية تميل لصالح المعسكر الإسلامي؛ وهذا ما انعكس في التصويت على التعديلات الدستورية في مارس/ آذار 2011، وخارطة الطريق التي حملتها تلك التعديلات، وفي الانتخابات البرلمانية الأولى. ولكن الدعم الشعبي لمعسكر الإسلاميين بدأ في التآكل، نظراً للتخوف من بعض الجماعات السلفية وبعض الأصوات الإسلامية الاخرى، وبفعل هجمة إعلامية منظمة وواسعة النطاق ضد الإسلاميين؛ ونظراً لاستعادة شبكات النظام القديم لأنفاسها، والدعم الذي تلقته من دول عربية , مثل السعودية والامارات , واسرائيل بالتاكيد وغيرها.ولعل الفارق الضيق بين الأصوات التي حصل عليها الرئيس مرسي عن الأصوات التي ذهبت لمنافسه، أحمد شفيق، رجل النظام السابق، في الانتخابات الرئاسية، كان انعكاساً لهذا التراجع.
خلال العام الأول من رئاسة الرئيس مرسي، تفاقم الانقسام وازداد تراجع الدعم الشعبي للمعسكر الإسلامي، لعدة عوامل: بعض الأخطاء التي تدعي المعارضة (منها بحق) ارتكبها نظام الرئيس مرسي في الحكم، وتعنت قوى المعارضة والرافضة لمجرد وجودهم في الحكم، والصعوبات الاقتصادية الهائلة التي تواجهها البلاد، وتدخلات عربية في الشأن السياسي المصري.
ولَّد هذا التفاقم تخندقاً استقطابياً في المناخ السياسي، حيث راحت القوى والجماعات المعارضة تطالب بتخلي الرئيس عن منصبه، رافضة أية دعوة للمشاركة في الحكم، بينما أصر المعسكر الإسلامي على شرعية الرئيس وبقائه حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة. وهذا ما أصبح عنوان الانقسام والتدافع في مظاهرات 30 يونيو/ حزيران الاخيرة.
شيء واحد يمكن ان يقال في هذا السياق يتلخص فيما راه البعض من المفكرين والمحللين يتلخص في استعجال الاخوان المسلمون في التنافس على كرسي الرئاسة ,فقد كان الاجدى الاكتفاء بالحصول على اغلبية برلمانية(على حد راي البعض) ,وترك منصب الرئاسة من خلال دعم مرشح قريب منهم (ابو الفتوح مثلا)؛لان أي رئيس مصري منتخب بعد ثورة 25 يناير يعني بالحسابات البسيطة تحمّل هذا الرئيس تبعات الحكم العسكري مدة 60 عاما الى الوراء, ثم رفض الرئيس مرسي تغيير حكومة الدكتور هشام قنديل ضعيفة الاداء والظهور السياسي والاعلامي,وهذا ما حصل فالشعب ما يهمه رؤية انجازات ملموسة على ارض الواقع مثل:
1- استرداد الحقوق المسلوبة والمنهوبة من عقارات, واموال وثروات ودماء الخ
2- تنمية اقتصادية وتحسين الاجور ورفع قيمة المعاشات والرواتب الخ
3- محاكمة رموز النظام السابق وقتلة المتظاهرين ورموز الفساد.
4- الاستقرار الامني , ومنع الفوضى والانفلات في الشارع المصري.
5- خلق فرص عمل والقضاء على ظاهرة البطالة والفقر.
6- دفع تعويضات لاسر الشهداء والمصابين الخ الخ
هذه اذن تركة صعبة وثقيلة جدا ,حيث انه بالحسابات البسيطة جدا لا يمكن انجازها خلال عام من الحكم فقط,في ظل استلام نظام لديه اكثر من 50 مليار دولار دين,في وقت الشعب فيه غير مدرك لها تماما.
اسباب الانقلاب على الشرعية
تدعي جبهة الانقاذ"الخراب" ومن لف لفيفها, ان الرئيس مرسي قد فشل في ادارة شؤون البلاد,رافضة الاعتراف بانها هي السبب الرئيس في تعطيل كل ما قرره الرئيس مرسي, ليس حبا في الشعب المصري وانما حبا في الكرسي اولا ,ثم نكاية في الاخوان المسلمين وتعطيلا لمسيرة المشروع الاسلامي الذي بدت بوادره من خلال الثورات العربية؛
أدلة المعارضة:
1- ادعاء المعارضة بان الرئيس مرسي قد تنصل من وعوده باستيعاب قيادات ورموز ثورة 25 يناير.
2- تمكين انصار ومريدي الرئيس مرسي من السلطة واستيعابهم في مؤسساتها.
3- الاعلان الدستوري الرئاسي.
4- محاولة نظام الرئيس مرسي المس بواقع بعض المؤسسات, والتحكم بها مثل: مؤسسة الازهر, والنقابات بانواعها,والكنيسة ,ورجال الاعمال, والجمعيات النسائية, والفنانين ووسائل الاعلام,والدخول في مواجهة مفتوحة مع القضاء الخ.
5- تفاقم الوضع الاقتصادي,وظهور ازمات داخلية مثل:مسالة البنزين والسولار والكهرباء الخ
6- الادعاء بان الرئيس مرسي قد اخفق في التعامل مع ملف سد النهضة الاثيوبي.
7- ادعاء المعارضة ايضا في ان نظام الرئيس مرسي فشل في التعامل مع الملف السوري, وبالذات قراره قطع العلاقات مع سوريا ودعوته للجهاد.
8- ادعاء المعارضة بان حدة الخطاب السياسي للرئيس مرسي, نفّر العديد من دول العالم من مصر واوجد قطيعة مع بعض دول العالم وعلى راسها بعض دول الخليج, الخ....
9- ادعاء المعارضة بان الاخوان المسلمين قد سرقوا ثورة 25 يناير.
لكن كل هذه وان وجدت مصداقية في بعضها مثل:رفض الرئيس مرسي تغيير حكومة الدكتور هشام قنديل, الا انها لا تستوجب كل هذا ولا المليونيات التي قامت بها في الميادين(24 مليونية), اذا ما عرفنا الاسباب الحقيقية خلف ما حصل ويحصل في مصر, اذا علمنا ان من يتحدثون باللغة اعلاه هم السبب الرئيس والمباشر فيما حصل , وهذا بحد ذاته مجرد لعبة سياسية محكمة, اشرفت عليها كل قوى الشر المعارضة لنظام الرئيس مرسي الموصوف منهم بالاسلامي-الاخواني.
الاسباب الرئيسة التي تقف وراء الهجمة ضد نظام الرئيس مرسي هي باختصار :
1- رفض المشروع الاسلامي وحكم مصر وفق تعاليم الدين الاسلامي او الشريعة الاسلامية.
2- التوجه العلماني – الليبرالي للقوى المعارضة لنظام الرئيس مرسي.
3- كراهية شرائح معينه اسلامية ومسيحية لجماعة الاخوان المسلمين بفعل ما قامت به الانظمة السابقة ووسائل الاعلام من عمليات غسيل ادمغة للناس ونفخ في عقولهم بخطر الاخوان على الشعب المصري.
4- مس نظام الرئيس مرسي بمصالح رموز الفساد في مصر من رجال اعمال , ومنتفعين, ولصوص ممن يتاجرون بثروات مصر على انواعها,ورموز دينية متخمة, واخرى تحت مسمى وطنية منعّمة الخ.
5- فتح نظام الرئيس مرسي ملفات وقضايا في المحاكم ضد الفاسدين والفساد وكل من اعتدى على حقوق الشعب المصري.
6- رفض المعارضة التعاطي مع نظام الرئيس مرسي وتعاملها معه بما يشبه العصيان المدني بهدف افشاله.
7- افتعال المعارضة لقضايا بغير وجه حق داخل المجتمع المصري مثل :ازمة البنزين والسولار والكهرباء, وحمل الناس على الوقوف طوابير امام محطات الوقود في حين انها الان غير موجودة.
8- تعاطي بعض الدول العربية مع المشهد المصري ودعم بعضها للمعارضة اما لتصفية حسابات لها مع بعض الدول الاخرى(السعودية, وقطر, والامارات) او لمنع انتشار حمى المشهد المصري الاسلامي.
9- دور اسرائيل والولايات المتحدة الرافض لحكم الاخوان المسلمين او اسلامية مصر لما يشكله من خطر داهم من وجهة نظرهم على المنطقة وبالتحديد اسرائيل.
10-السلطة الوطنية الفلسطينية وموقفها من نظام الرئيس مرسي الداعم لنظام حماس في غزة, ومطابقته للموقف الاسرائيلي شريك م.ت.ف في اتفاق اوسلو المشؤوم.
11- بقاء الكثيرين من رموز النظام السابق في مناصبهم , وعرقلة مساعي الرئيس مرسي في التخلص منهم ,مثل:القضاه, كبار الاعلاميين,قادة في الجيش, اداريون ,قادة في الاجهزة الامنية الخ...
12- ثورة 25 يناير لم تكن ثورة اسلامية بمعنى الكلمة وانما ثورة شعبية شاركت فيها كل الاطياف ,في حين ان الاخوان قد تاخروا بعض الشيء بالمشاركة,اعطى هذا الاطراف الاخرى وكل من شارك فيها الحق في المطالبة بحصة في الحكم, وهذا غير ممكن طبعا.
اذن يلاحظ المرء ان ما قامت به المعارضة بغير وجه حق من تحريض للشعب المصري, ودعوة الجيش للانقلاب على الشرعية الدستورية باطل ,لانها هي من عطل عجلة التنمية والبناء, واثار في نفوس المصريين ضرورة تنحي الرئيس المنتخب, وادخلت –أي المعارضة- الرعب في صفوفهم من نظام الرئيس مرسي الاخواني كما يدعون.
هذا الاستقطاب اوجد معسكرين متنافسين في المشهد المصري ,معسكر معارض للشرعية , واخر مؤيد لها,لكن الملفت للنظر هو موقف القوات المسلحة الدال على مشاركته في المؤامرة؛فموقفه الحقيقي في ظل ازمة كهذه وانقسام في الشارع المصري واضح وهو الوقوف الى جانب الشرعية الدستورية, ودعم الرئيس المنتخب وفرض احترام الدستور ,والنظام العام ومعاقبة كل من يمس امن الوطن, والحوار مع المعارضة بكل السبل لاقناعها بصورة واخرى من خلال بيان عواقب مخالفتها للدستور والقانون , وتعطيلها للحياة العامة ,وليس الانحياز لها والوقوف الى جانبها ضد الشرعية والدستور والقانون , ما دام الجيش المصري يعتبر نفسه وطنيا ولا يتدخل في السياسة.(لكنها المؤامرة لا غير).
أما ردة فعل الطرف المعتدى على شرعيته كانت معروفة ايضا منذ اللحظة الاولى,وتتلخص في رفضها للانقلاب العسكري جملة وتفصيلا وعدم اعترافها بخارطة الطريق التي فرضها العسكر؛لان الرضوخ لذلك يعني تعرض جماعة الاخوان المسلمون لازمة حقيقية مع النظام الجديد وعودتهم لمربع حكم عبد الناصر والسادات ومبارك , وهذا ما لمسناه مباشرة بعد الانقلاب , حيث اعتقلت قياداتهم واغلقت قنواتهم الفضائية وزج في السجون بالكثير من كوادرهم لا بل وارتكبت مجازر في حقهم.
سيناريوهات المشهد المصري بعد الانقلاب :
حقيقة الواضح ان السيناريوهات كثيرة في ظل حالة التنافر بين الفريقين , وما اتضح من اختلاف فكري- ايديولوجي بينهما وليس سياسيا بحتا,أي بين مشروعين اسلامي واخر علماني- ليبرالي, منها:
السيناريو الاول: نجاح الانقلاب في التمسك بالسلطة وفرض نفسه على المشهد المصري بكل الوسائل حتى القتل.
السيناريو الثاني:نجاح قوى الشرعية الدستورية في استقطاب الشارع المصري , وخلق راي عام قد يغير المعادلة لصالحهم بصورة او اخرى.
السيناريو الثالث: دخول وساطات على الخط, وتمكنها من ايجاد صيغة توافقية بين الفريقين ,ترضي جميع الاطراف , وتحفظ ماء وجه الجميع.
السيناريو الرابع:حصول تمرد في الجيش المصري يفضي بعزل الفريق السيسي واعادة الامور الى نصابها قبل الانقلاب.
السيناريو اخامس : سن قانون يخرج حركة الاخوان المسلمون من القانون وبالتالي ملاحقتهم قضائيا والتعامل معهم في الميادين انطلاقا من ذلك.
السيناريو السادس : وصول انصار الرئيس مرسي لطريق مسدود ولحالة من الارهاق واليأس من حدوث تغيير وبالتالي التسليم بالامر الواقع.
السيناريو السابع: دخول البلاد في حرب اهلية على غرار ما هو في سوريا او لبنان سابقا تكون اثارها مدمرة.
واخيرا...
مؤامرة دبّرت بليل , واحكمت اطرافها ,وهي بحد ذاتها فتنة داخلية لم ولن تمر بسلام على الشعب المصري,لكنها في المحصلة كما يبدو عودة مصر لما قبل الثورة, بدعم من قوى داخلية حاقدة على حركة الاخوان المسلمون , وغير راغبة في تطبيق احكام الشريعة الاسلامية في الشارع المصري,اضافة الى الكنيسة القبطية الرافضة ايضا لما ذكر, ناهيك عن قوى اجنبية منها:السعودية ودول الخيج باختصار التي تخشى وصول حمى الثورات والاسلاميين الى بلدانها, واسرائيل والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة,التي بدات تؤيد الانقلابيين .
لكن كما هو معروف الايام دول ,فان خسر اتباع المشروع الاسلامي هذه الجولة,فان غدا لناظره قريب, والشعوب عادة قنابل موقوتة وبراكين هادئة تثور كلما ازداد الظلم وطفح الكيل, ولكن لا يزال المشهد المصري ساخنا , ولربما يشهد مفاجأت تغير المعادلة وتعيد الامور الى نصابها, كما كانت!!!
الكتابات والمواضيع المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع وانما تعبر عن رأي كاتبها والمسؤولية القانونية يتحملها الكاتب . للتواصل مع موقع القرية نت . عنوان بريدinfo@alqaria.net / هاتف رقم:0507224941